فصل: تفسير الآية رقم (186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (186):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [186].
{لَتُبْلَوُنَّ} أي: لتختبرن: {فِي أَمْوَالِكُمْ} بما يصيبها من الآفات: {وَأَنفُسِكُمْ} بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد. وهذا كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155- 156]، إلى آخر الآيتين- أي: لابد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله. وفي الحديث: «يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في البلاء» {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} بالقول والفعل: {وَإِن تَصْبِرُواْ} على ذلك: {وَتَتَّقُواْ} أي: مخالفة أمره تعالى: {فَإِنَّ ذَلِكَ} أي: الصبر والتقوى: {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي: من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون. أي: مما يجب أن يعزم عليه كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف. أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه. يعني: أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى، لابد أن تصبروا وتتقوا. وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية، من إظهار كمال اللطف بالعبادة، ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر. وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.

.تفسير الآية رقم (187):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [187].
{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وهم علماء اليهود والنصارى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} أي: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} من النهي عن الكتمان، بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به: {فَنَبَذُوهُ} أي: الميثاق: {وَرَاء ظُهُورِهِمْ} أي: طرحوه ولم يراعوه، ونبذُ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية. كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به: {وَاشْتَرَوْاْ بِهِ} أي: استبدلوا به: {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: شيئاً حقيراً من حطام الدنيا: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب إظهار الحق، وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره. وقد تقدم هذا، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة، ويدخل في الكتم، منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.
وقال العلامة الزمخشري عليه الرحمة: كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام الدنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم، وعيرة أن ينسب إليه غيرهم- انتهى-.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»- أخرجه الترمذي- ولأبي داود: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثكم بشيء. ثم تلا: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ} الآية.
لطيفة:
قال العلامة أبو السعود: في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة، لاسيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ، والإعراض عن المعطي، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون، مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل- من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير، على الشريف الخطير، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة، والوسيلة مقصداً- ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه- انتهى-.
ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال:

.تفسير الآية رقم (188):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [188].
{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} أي: بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} أي: بمنجاة: {مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بكفرهم وتدليسهم.
روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}- إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم الترمذي والنسائي في تفسيريهما، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه، وابن مردويه بنحوه. ورواه البخاري أيضاً عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس- فذكره- وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} الآية- وكذا رواه مسلم بنحوه.
ولا منافاة بين الروايتين، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك، لا أن أحد الأمرين كان سبباً لنزولها. كما حققناه غير مرة.
تنبيه:
هذه الآية، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل. ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة».
وفي الصحيحين أيضاً: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور». فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى.
فائدة:
قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني، وفاعل الأول {الذين يفرحون}. وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي: {تَحْسَبَنَّهُمْ} لأن الفاعل فيهما واحد. فالفاعل الثاني تأكيد للأول، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول. والفاء زائدة، إذ ليست للعطف ولا للجواب، وثمة وجوه أخرى.
لطيفة:
تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور، للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة، وقطع أطماعهم الفارغة، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية، وعليه كان مبنى فرحهم. وأما نهيه صلى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام- أفاده أبو السعود-.

.تفسير الآية رقم (189):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [189].
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو قادر على عقابهم.

.تفسير الآية رقم (190):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [190].
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار، ونبات وزروع، وثمار وحيوان، ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: {وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفة للآخر، بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده: {لآيَاتٍ} أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته، وباهر حكمته. والتنكير للتفخيم كمّاً وكيفاً، أي: كثرة عظيمة: {لِّأُوْلِي الألْبَابِ} أي: لذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً كما قال:

.تفسير الآية رقم (191):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [191].
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} أي: فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن. فالمراد: تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عنه تعالى. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر، ليس لتخصيص الذكر بها، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الْإِنْسَاْن غالباً: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى. كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

روى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار عن الصوفي الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني قدس الله سره أنه قال: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة. وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته.
خرّج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام: لا تفكروا في الله، ولكن تفكروا فيما خلق، وله شواهد كثيرة.
قال الرازي: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِوَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. ولما كان الأمر كذلك، لا جرم أمر في هذه الآية الفكر في خلق السموات والأرض، لأن دلالتها أعجب، وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك، ولو كأن الْإِنْسَاْن نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عرقاً واحدا ًممتداً في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر، حتى تصير في الدقة بحيث لا يرها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة، وأسراراً عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة، جزءٌ من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم، ولو أراد الْإِنْسَاْن أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها، لعجز عنه. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم. وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم. فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين. بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة، وأسرار عظيمة، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} على إرادة القول بمعنى يتفكرون قائلين ذلك. وكلمة: {هَذا} متضمنة لضرب من التعظيم، أي: ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً، عارياً عن الحكمة، خالياً عن المصلحة، بل منتظماً لحكم جليلة، ومصالح عظيمة. من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مداراً لمعايش العباد، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد.
لطيفة:
قال أبو البقاء: باطلاً مفعول من أجله. والباطل، هنا، فاعل بمعنى المصدر، مثل العاقبة والعافية. والمعنى: ما خلقتهما عبثاً. ويجوز أن يكون حالاً. تقديره ما خلقت هذا خالياً عن حكمة. ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي: خلقاً باطلاً- انتهى-.
وقوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهاً لك من العبث، وأن تخلق شيئاً بغير حكمة: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قال السيوطي: فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء. ذكره النووي في الأذكار. وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولاً، كما دل عليه قوله: {سُبْحَانَكَ} ثم بعد الثناء يأتي الدعاء، كما دل عليه: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وعن فَضَالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في صلاته، لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء». رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح.
واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، بقولهم: